<HR style="COLOR: #bfbdbd" SIZE=1>
عجيب أمر الشهادة ، يتمناها سيد ولد آدم الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، لا يتمناها مرّة ، بل مرة ومرة ومرة ""... والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل اللَّه فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل" (رَوَاهُ مُسلِمٌ) .. عِظم أمر الشهادة عند الله عجيب !! وما أعد الله للشهداء أعجب من العجيب !!
فمن هو هذا الشهيد !! ولماذا نال هذه المنزلة !!
من هو هذا الشهيد !! هو ذلك المؤمن الذي يقاتل تحت راية إسلامية ظاهرة لإعلاء كلمة الله فيقتله أعداء الله ، أو يموت في خضم الرحلة الجهادية ميتة طبيعية.
من هو هذا الشهيد !!
هو من خير الناس منزلاً .. يجري عليه عمله حتى يُبعث .. دمه مسك .. يحلّى من حلية الإيمان .. هو من أُمناء الله في خلقه .. روحه في جوف طير أخضر يرِد أنهار الجنة ويأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش .. يأمن من الصعقة .. يأمن من الفزع الأكبر .. يُشفّع في سبعين من أقاربه .. يزوج باثنتين وسبعين من الحور العين .. يلبس تاج الوقار ، الياقوته فيه خير من الدنيا وما فيها .. هو من أول من يدخل الجنة .. يكلمه الله كفاحاً دون حجاب .. يسكن الفردوس الأعلى في خيمة الله تحت العرش لا يفْضله النبيّون إلا بدرجة النبوة ..
هذا بعض شرفه بعد موته ، أما وهو يجاهد ، ففضل الجهاد لا يجهله أحد من أهل الإيمان ، ويكفيه أنه ذُروة سنام الإسلام وعمل الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام.
ووقفتنا هنا مع اللحظات الأولى للشهيد ، والأخيرة للمجاهد .. تلك اللحظات التي يحجم عنها الرجال ، ويخاف من هولها الأبطال .. تلك اللحظات التي يفارق فيها الإنسان حياته وكل ما رتبه لنفسه من أحلام وأوهام لتنقطع فجأة ويصبح في عالم آخر لم يشاهده ولم يعرفه إلا خبراً لا عيان.
هذه اللحظات هي "أولى لحظات الشهيد" ..
هي لحظات تحكي بداية وُلوجه باب البرزخية .. بداية مفارقته الدنيوية إلى الأُخروية .. نهاية كونه مسلماً حياً إلى بداية حياة الشهادة الأبدية ..
لحظات عجيبة في قاموس الإنسان ..
لحظات لا يُدركها أي إنسان ..
إنها لحظات لا يمتطي صهوتها إلا أهل الإيمان ..
لحظات يعجز عن وصفها البيان ..
لحظات إقبال وإحجام ممتزجان ..
لحظات يقف فيها عقل المؤمن حيران : أيبارك أم يحزن ، أيهنّئ أم يعزي ، أيبكي أم يفرح ..
أحزان أم أفراح وأحضان !!
فما حال تلك اللحظات !!
يُقبل المؤمن إقبالة الليوث على الهوام ، ويكون في مقدمة الرجال في ساعات الإحجام ، وإذا اصطفاه ربه فإن "أَفْضلُ الشُّهَدَاء الَّذِينَ إِنْ يَلْقَوْا في الصَّفِ لا يَلْفِتُونَ وجوهَهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا، أُولَئِكَ يَتَلَبَّطُونَ في الْغُرَفِ العُلَى مِنَ الْجَنَّةِ، وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ، وَإِذَا ضَحِكَ رَبُّكَ إِلَى عَبْدٍ في الدُّنْيَا، فَلا حِسَابَ عَلَيْه" (أحمد)
يضحك إليه رب العزة ..
ما أكرمه من موقف وأهيبه ..
وماذا بعد يا شهيد !!
أخبرنا قائد من قادة الجهاد البوسني ، قال: كنا مجموعة من الإخوة في الغابة ، فإذا بأحد الإخوة يصرخ فينا : "الجنة ، انظروا الجنة ، وأشار بيده أمامه فما هي إلا لحظات حتى أتته رصاصة قناص استقرت في رأسه فخر ميتاً رحمه الله " .. "إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ الله خِصَالاً: ... ويُرَى مَقْعَده مِنَ الجَنَّةِ ..." (أحمد وصححه الترمذي).
يضحك له ربه ، ويُرى مكانه في الجنة وهو على الأرض ..
ما أعظمها من منّة .. ثم ماذا يا شهيد !!
يحجم الأبطال عن ساح النزال لما توهموه من الآلام والأوجاع إذا استقرت في أجسادهم النصال .. ولكن المؤمن يُقدم لعلمه بحقيقة الحال "ما يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنَ القَتْلِ إِلا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ" (أحمد والترمذي والنسائي وسنده حسن).
يضحك له ربه ، ويُرى مكانه في الجنة ، ولا يتأوّه عند الموت ..
ما أكرمه على الله !!
ثم ماذا يا شهيد !!
يخاف المؤمن الذنوب ، ويريد قبل الموت أن يتوب ، فقال نبي علّام الغيوب "... وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ فَرِقَ على نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا، جاهد بِنفسِهِ وَمَالِهِ في سَبيِلِ اللهِ حَـتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ، قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ، فَتِلْكَ مُمَصْمِصَةٌ مَحَتْ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ، إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءُ الخَطَايَا .." (المسند وصحيح ابن حبان) ..
أتخاف من الذنوب "إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ الله خِصَالاً أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مِنْ أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ ..." (أحمد وصححه الترمذي)
يضحك له ربه ، ويُرى مكانه في الجنة ، ولا يتأوّه في لحظة الموت ، وتُمحى ذنوبه ..
ما أعظم الشهادة في سبيل الله ..
أرضيت يا شهيد !!
يُفتن الناس في القبور ، وصاحبنا في القبر مسرور ، فعند النسائي وغيره أن رجلاً قال: يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ، قال "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة".
يضحك له ربه .. يرى مكانه في الجنة قبل موته .. لا يجد من ألم الموت شيء .. تمحى خطاياه من أول دفعة من دمه .. يأمن من فتنة القبر !!
كل هذا في لحظات قليلة يخاف منها جميع بني الإنسان ..
إنها لحظات إمتحان ..
لحظات قصيرة يجتازها المؤمن الولهان ، يسيل فيها دمه فيرى مغنمه "لاَ تَجِفُّ الأَرْضُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ حَتَّى يَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ، كَأَنَّهُمَا طَيْرَانِ أَضَلَّتَا فَصيلَيْهِمَا بِبَرَاحٍ مِنَ الأَرْضِ بِيدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُلَّةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَا فِيهَا" (أحمد)
ألا تكفيك الحوريتان يا شهيد !!
أتطمع من الشرف المزيد !!
لك والله يا شهيد ما تريد:
عن جابرا ابن عبدالله يقول: جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مُثّل به، ووضع بين يديه، فذهبت أكشف عن وجهه، فنهاني قومي، فسمع صوت صائحة ، فقيل: ابنة عمرو، أو أخت عمرو، فقال: (لم تبكي - أو: لا تبكي - ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها). (البخاري)
ما أعظم الشهيد : يُحتفى به في الآخرة حفاوة عظيمة ، ولا يخرج من الدنيا إلا بمواكب كريمة ..
الناس تبكي والشهيد يضحك ..
الناس في فزع والشهيد في الجنة يرتع .. وفده كريم ، وأمره عظيم ..
دخوله الدنيا كما الناس ، وخروجه تحتبس له الأنفاس ..
آآهٍ لك يا شهادة ..
من فاز بكِ فاز بالزيادة ..
ومن أحجم فهو في نقصان ، نعوذ بالله من الخُسران ..
يموت الناس والشهيد لا يموت ..
يبكي الناس ، والشهيد يبتسمٌ في وجه الردى يضم الموت بصدر فيه لوعة الإيمان تحترق شوقاً للقاء ذوات الدلّ من الحور الحسان اللاتي كأنهن الياقوت والمرجان ..
"وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ" (آل عمران : 169-171)
إنها لحظات فيها البرهان .. لحظات هي الحيَوان ..
ثواني معدودة ودقائق إمتحان ، يجتازها المؤمن فتُفتح له أبواب الجنان ..
لحظات تفك قيود الحياة فينطلق الشهيد حراً بروحه إلى عالم الغيب فيرى من النعيم ما هو فوق البيان ..
لحظات يضحك إليها الملك الديّان ..
لحظات يضمها المؤمن ضمة العاشق الولهان ..
لا وصب ولا نصب ، إنها لحظات إيمان ..
أولى لحظات الشهيد وآخر لحظات الإنسان ..
اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك مقاتلين مقبلين غير مدبرين ، يا كريم يا منّان.